د. فؤاد البداي: المناطقيّة.. قناع جديد لأجندات خاصة وغير وطنية

في ظل تعقيدات المشهد اليمني، ما تزال الخطابات المناطقية الضيقة تطل برأسها على المشهد وبشكل متزايد، في وقت نحن فيه بأمس الحاجات لخطابات تدعو للتوحد، وبالذات ونحن نشهد مؤامرات واضحة وضوح الشمس لضرب كل أواصر الوحدة الوطنية والجغرافية لشعوبنا العربية.

نجد هذه الخطابات لدى بعض الأفراد، وغالبًا ما تأتي متسترة بدعاوى الدفاع عن مصالح مناطقهم أو محافظاتهم أو قبائلهم، ولإثبات حرصهم الزائد يميلون إلى إثارة المخاوف تجاه أبناء المناطق الأخرى، ويعمدون للتشكيك في كل شأن يخصهم وتفسير نواياهم على طريقتهم الخاصة، وقد يصل الأمر لاعتبارهم دخلاء، وفي حالات يتم نعتهم المستعمرون والمحتلون، وغير ذلك من الأوصاف التي تجعل العقل حيران..!.

البعض يعتبر مثل هذا الخطاب شكلًا من أشكال “النضال” المشروع، للدفاع عن مظلوميات وحقوق معينة، في حين يرى مراقبون أن مثل هذا الخطاب لا يعدو كونه أداة لتفكيك النسيج الوطني وإثارة الفتن، لا تختلف كثيرًا عن الخطابات المذهبية الضيقة التي لطالما عانى ويعاني منها اليمن، وأما المظالم، فقد أثبت الواقع أن أي قضية خاصة ما إن تتكشف حتى يهب الجميع في شكل رأي عام للانتصار لها بغض النظر عن الانتماء المناطقي للمظلوم أو الظالم.

المفارقة العجيبة؛ أن من يتبنون هذا الخطاب اليوم، لا يدركون – أو يتجاهلون – أن ما يقدمونه للناس من شعارات، ليس سوى وقود لصراعات داخلية قد تتفاقم حتى تصل إلى حدود المديريات وربما القرى، فالمنطق الضيق هو نفسه، فمن لا يرى الدفاع عن الحقوق إلا من باب المناطقية على مستوى المحافظة أو القبيلة، فلن يتورع في استخدامها على مستوى القرية و”القروية،” وهو ما يشير إلى تراجع خطير في مستوى الخطاب السياسي والاجتماعي، وانزلاق متسارع نحو عصبيات ما قبل الدولة.

في الجنوب، تحديدًا، رفع البعض شعارات مناطقية بدوافع ومطالب مشروعة، لكنها سرعان ما استُثمرت لأغراض تتجاوز حقوق الناس، لتتحول إلى أدوات للتكسب الشخصي، وادوات لصراع سياسي وصيغ إقصاء واستعلاء على حساب بقية أبناء الوطن، وعلى حساب مصالح الوطن العليا، وهذا ما أكدته الوقائع مع مرور الوقت، حيث تكشفت هذه الادعاءات لدى الكثير من أبناء الجنوب أنفسهم، الذين باتوا يرون أن الجغرافيا الجهوية، لم تكن قطّ المشكلة الحقيقية لنا كشعب يمني، وأن جوهر المشكلة إنما يكمن في الإدارة السيئة للحكم، والفساد، وانعدام العدالة، وهي مشكلات لا تملك هوية مناطقية أو جهوية، كما انها سمة ملازمة لكل الشعوب الدول النامية المتخلفة، وليست سمة خاصة بنا كشعب، ولا بشمال اليمن أو جنوبه.

والأعجب من ذلك، أن من كانوا يشكون من العصبيات القبلية في مراحل سابقة، نجدهم اليوم أنفسهم، من يتعصبون لمناطقهم اليوم بدعاوى تشبه تمامًا دعاوى من كانوا محل انتقادهم من قبل..!

بعض الأصوات اليوم في الكثير من المحافظات شمالاً وجنوبًا تتبنى خطابًا مناطقيًا لا يقل خطورة عن أي خطاب من خطابات الكراهية بل ربما يزيد في خطورته على وحدة وأمن واستقرار البلاد، ونجده يتغذى على المنطق الإقصائي نفسه، والمقلق أن هذا الخطاب يجد من يصفق له، إما بدافع عاطفي أو لمصالح خاصة، أو حتى انتقامًا من مواقف شخصية.

السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لا نرى إجماعًا على خطاب وطني جامع يتجاوز الجغرافيا والانتماءات المناطقية والفئوية والمذهبية الضيقة؟ لماذا لا يتم رفض هذا المنطق بكل صوره وأشكاله، وأنه لا يعد من حرية التعبير وإنما استغلالاً لهذا الحق وتعدي على مبدأ حرية التعبير، الذي غايته الأساسية هي الارتقاء بالوعي ومقاومة الظلم، وليس الانحطاط في التعبير وظلم أبناء المناطق الأخرى، وتهديد وحدة ومصالح الشعب؟.

ربما أن من الأسباب الأخرى لتفشي ثقافة هذا الخطاب، تكمن في أن الخطاب الوطني الحقيقي اليوم لا يحقق مكاسب سريعة كما تفعل الشعارات المناطقية في بعض الحالات، ولا يثير الحماس الشعبي على مستوى المناطق بذات القدر، لكن ما من شك، أن التمسك بالخطاب الوطني الجامع، الذي يرتقي بالوعي على مستوى الوطن بأجمعه، هو وحده القادر على رسم طريق الدولة العادلة والمستقرة.

في النهاية، الوطن لا يُبنى بالتخندق خلف مثل هذه الادعاءات وبناء الهويات الضيقة، وإنما ببناء الدولة القوية على أساس هوية موحدة، والعمل من خلالهما لتحقيق العدالة والمواطنة والمساواة، وهذا ما ينبغي أن يشكّل محور الخطاب الإعلامي والسياسي اليمني في هذه المرحلة الدقيقة.

Comments are closed.

اهم الاخبار