بشير القاز: هل انتصر ترامب في حربه التجارية مع الصين؟

في لحظة من لحظات العبقرية التويترية، قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال الاسابيع القليلة الماضية بأن يشعل حربًا تجارية ضد نصف كوكب الأرض، ثم تراجع عنها بعدما تهاوى الدولار، وأُصيبت بورصة نيويورك بانهيار عصبي… فرض رسومًا على الصين وكأن الاقتصاد لعبة، فكان ردّ التنين باردًا وقاسيًا: عقوبات مضادة.. حظر شركات..وقطع إمدادات المعادن النادرة.

واشنطن ترتجف وبكين تنتج:

بينما كانت أمريكا تحتفظ بعرش الصناعة العالمية بنسبة 38.7% من الإنتاج الصناعي في الحرب العالمية الثانية، لم تكن الصين تملك سوى 0.3%، إلا أن الوضع تغير جذريًا اليوم، حيث تسيطر الصين على 22% من الإنتاج الصناعي العالمي بينما قررت أمريكا التحول إلى “الاقتصاد الخدمي”، ما جعلها تعتمد على الاستيراد..

في هذا السياق، أطلقت الصين استراتيجية “صنع في الصين 2025″ التي تهدف إلى الهيمنة على صناعات المستقبل مثل الذكاء الصناعي.. الفضاء. والأدوية.. ما يشكل تهديدًا مباشرًا للولايات المتحدة المتعطشة للهيمنة والابتزاز عالميا.. فترامب، الذي حاول مواجهة هذا التحدي من خلال الحرب التجارية، لا يدرك أن الصين لا تقتصر على تصنيع السلع الاستهلاكية الرخيصة، بل أصبحت لاعبًا رئيسيًا في الصناعات التكنولوجية المتطورة، مما يضع مستقبل الهيمنة الأمريكية على حافة الدوس الابدي.

تعرفة ترامب .. قنبلة اقتصادية انفجرت في جيبه الجمركية:

ترامب، الذي أراد إنقاذ وول ستريت، نسي أن الحروب التجارية، وإن بدت اقتصادية، غالبًا ما تنتهي على طاولة السلاح، وهو ما تجاهله وهو ينفخ صدره ويتوعد التنين الصيني..  جاءت الردود من الاخير بحزم لا يعرف المزاح: رسوم انتقامية بنسبة 84٪، حظر التعامل مع شركات أمريكية، و”بلوك” صارم لتصدير المعادن النادرة… تلك التي يتغذى عليها اقتصاد أمريكا التقني والعسكري كحليب أمّي.

ومن أجل إنقاذ بعض أسهم شركاته الصديقة، ترك ترامب الأسواق العالمية تتخبط، والدولار يترنح، وسلاسل التوريد تذوب تحت حرارة الضبابية.. أما جمهوره من الحلفاء في أوروبا وآسيا والمنطقة العربية، فاستيقظوا ليجدوا أنفسهم في قلب زلزال اقتصادي لا يعرفون إن كان سببه تعرفة جمركية… أم تغريدة طائشة والمفارقة أن الصين اليوم لم تعد مجرد منافس، بل أمست “مصنع العالم” الحقيقي، تنتج 30٪ من الناتج الصناعي العالمي، وتحتكر 90٪ من المعادن الضرورية للصناعات التقنية والعسكرية بل اصبحت هي الشريان المغذي للاقتصاد الأمريكي، ولحلفائه، وحتى لروسيا المنهمكة في حربها الأوكرانية.

الفيل في الغرفة… يتخبط:

بضربة واحدة من رأسه الضخم، أدخل الفيل الأمريكي السوق العالمية في حالة دوار.. ترامب الذي كان يتغزل برئيس الصين شي جينبينغ، لم يتردد في الانقلاب عليه كمن يبيع صديقه في مزاد التعرفة الجمركية وما أن ردّت بكين على الصفعة بصفعتين – قيود على المعادن النادرة، وتعريفات انتقامية – حتى بدأت مؤشرات وول ستريت بالانحدار، ومعها مصداقية “تاجر الصفقات العظيم”..

فـ الرئيس الصيني قالها بوضوح: “لا أحد يربح من حرب تجارية، ومن يعاند العولمة سيجد نفسه في العزلة” وبينما ترامب يرقص منفردًا على أنقاض اتفاقياته التجارية، كانت الصين تؤسس لتحالفات جديدة، وتبني نظامًا ماليًا يتجاوز الدولار، وتعدّ العدة للعالم ما بعد الهيمنة الأمريكية والأهم أن شي لا يرى في التفاوض مع ترامب “حلاً وسطًا”، بل تنازلاً عن كرامة وطنية ففي ثقافة التنين، الركوع ليس خيارًا حتى لو جاء من فيل يصرخ فوق الطاولة علماً بأن ترامب لم يفرض رسومًا فقط، بل تعامل بعقلية “راعي البقر” الذي يظن أن بإمكانه إذلال الآخرين بأسلوب استعلائي فاقم الجراح التاريخية للصينيين، الذين لم ينسوا بعد حروب الأفيون وقرن الإذلال الاستعماري.

ترامب يحارب الصين بسلاح صيني الصنع:

في تغريدة شهيرة عام 2018، خرج دونالد ترامب، متقمصًا دور نبي الاقتصاد الجديد، ليبشّر العالم بأن “الحروب التجارية جيدة وسهلة الفوز”، وكأن التجارة الدولية مباراة بلياردو في كازينو لاس فيغاس، لا شبكة مصالح معقدة تربط الدول ببعضها واليوم عاد الرجل مجددًا ليشعل الحرائق، فارضًا رسومًا جمركية تجاوزت 100% على واردات الصين، في مشهد أقرب إلى من يلقي البنزين على بيت من ورق ثم يتساءل لماذا اشتعلت النيران.

وزير خزانته، سكوت بيسنت، حاول تبرير الحماقة الترمبية الاقتصادية قائلًا: إن الصين “تلعب بورقتين خاسرتين”.. مدعيًا أن أمريكا تمتلك اليد العليا في لعبة البوكر التجارية..

والحقيقة:

أمريكا تُراهن بأمنها الاقتصادي على طاولة بلا عائد ونظريًا من يصدر أكثر يخسر أكثر عمليًا.. أمريكا تستورد كل ما تحتاجه من الصين، بدءًا من إبر الخياطة، مرورًا بشرائح الكمبيوتر، وصولًا إلى المعادن التي تدخل في صناعة دباباتها وصواريخها… حتى دواء صداع ترامب نفسه – لو كان يأخذه – غالبًا مستورد من بكين ..

ففي 2024، سجلت واشنطن عجزًا تجاريًا مع الصين بلغ 263.3 مليار دولار وهذا يجعل من المنطقي أن واشنطن هي الطرف الأضعف: الصين ستخسر أموالًا، وأمريكا ستخسر منتجات لا تصنعها أصلًا لكن إدارة ترامب قررت أن تخلط الحرب الاقتصادية بتقشف فكري حاد…

فبدلًا من تنويع مصادر التوريد أو تعزيز التصنيع المحلي، قرروا ببساطة أن يقطعوا الحبل السري قبل تجهيز الحاضنة.

أما منطق الوزير بيسنت في تشبيه الحرب التجارية بلعبة بوكر فهو عبقري من نوع خاص لأن التجارة، بخلاف البوكر، ليست “اللعب على الطاولة” بل “العيش على الطاولة”.. ومن يخسر هنا لا يخرج بوجه عابس فقط، بل ببطالة، وتضخم، وسلاسل توريد مختنقة لتكون النتيجة… :ركود تضخمي على طريقة السبعينيات، ولكن هذه المرة بنكهة ترامبية، حيث تدفع الشركات والأسر الثمن، وتُترك الأسواق تتخبط بين التغريدات والرسوم، بينما يتحول مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى فريق إطفاء يعمل بدون ماء.

رسوم جمركية على الصين.. يعني رسوم إضافية على كل بيت أمريكي:

وفي فصل جديد من دراما السياسات الاقتصادية، وعقب اطلاق الرئيس الأمريكي  دونالد ترامب موجة الرسوم الجمركية الجديدة التي استهدفت معظم المنتجات الصينية، تراجع ترامب بشكل مفاجئ عن استهداف الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، في خطوة بدت وكأنها إنقاذ عاجل لأقربائه الاقتصاديين وجاء هذا الاستثناء ليعكس حالة التخبط في إدارة الملف التجاري، حيث بدا أن بعض السلع تحظى بمعاملة خاصة، وكأنها “أبناء العم” في مأدبة قرارات مرتجلة فـ الإعفاءات التي طالت الهواتف الذكية وأجهزة الحواسيب المحمولة، والتي تبلغ قيمة وارداتها من الصين 74 مليار دولار سنويًا، بدت وكأنها طوق نجاة لشركات وادي السيليكون، بعدما تراجعت أسهم “آبل” و”مايكروسوفت” و”إنفيديا” خلال أسبوع واحد.. فبينما نالت ألعاب الأطفال ضربة قاسية، بدا أن “الآيفون” حظي بعفو رئاسي خاص، ربما لأنه الجهاز المفضل للتغريد الرئاسي.

قطاع الألعاب لم يكن بنفس الحظ فالصين تُصنّع ما يقارب 75% من دمى الأطفال والدراجات ثلاثية العجلات التي تصل إلى السوق الأمريكية، ما دفع شركة “ماتيل”، المصنّعة لدمى “باربي” و”أونو” و”هوت ويلز”، إلى التلميح بإمكانية رفع الأسعار، في رسالة مبطنة للمستهلك الأمريكي..

” أما على صعيد السلع المنزلية، فأن الحرارة المرتفعة ستكون مكلفة هذا الصيف، بعد أن شملت الرسوم مراوح الهواء – 90% منها صينية المنشأ – وأفران “الميكروويف” ووحدات التكييف المحمولة..

ومع هذه القرارات، قد يضطر المستهلك الأمريكي للاختيار بين تبريد منزله أو تبريد إنفاقه.

المفارقة أن نقل سلاسل التوريد من الصين، كما تروج بعض التصريحات السياسية، ليس بهذه البساطة فبحسب آلي رينيسون، المسؤولة السابقة بوزارة التجارة البريطانية، حتى المنتجات التي تُجمع في دول آسيوية أخرى لا تخلو من “بصمة صينية”، سواء في المكونات أو المواد الخام فكما هو واضح، لا يكفي نقل المصنع لتغيير مصدر البرغي.. بينما شركة “آبل”، التي باشرت بتحويل بعض إنتاجها إلى الهند، قد تغطي نصف احتياجات السوق الأمريكية فقط أي أن الآيفون قد يصبح أكثر ندرة من الاتفاقيات التجارية نفسها، ما لم تجد الولايات المتحدة بديلًا إنتاجيًا بمواصفات تضاهي سلسلة التوريد الصينية

اقتصاديون ينتفضون ضد قرارات ترامب:

عقب توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرسوم الرسوم الجمركية الجديدة، التي أثارت جدلاً واسعاً، عبّر عدد كبير من الخبراء الاقتصاديين عن استيائهم العميق فمن باريس إلى بكين، ومن بيروت إلى لومي، تسابق خبراء الاقتصاد لنزع أقلامهم من جيوبهم لتوقيع شهادة الوفاة السياسية لـ”الترامبية الاقتصادية” فالرئيس الذي وعد بإعادة مجد أميركا، قرر أن يحقق هذا المجد عبر شنّ حرب على كل من يملك سلعة، أو شحنة، أو حتى نية للاستيراد.

الاقتصادي الفرنسي الشهير توما بيكيتي، صاحب “رأس المال في القرن الـ21″، لم يضيّع وقتًا في المجاملة، ووصف الترامبية بأنها ارتداد هستيري على فشل السياسات الليبرالية منذ أيام رونالد ريغان وبلهجة تشبه نصيحة أستاذ جامعي لطالب خائب، قال بيكيتي إن الجمهوريين أدركوا – أخيرًا – أن العولمة لم تُطعم الطبقة الوسطى، فقرروا الانتقام من العالم الخارجي بدلًا من مراجعة دفاترهم القديمة. المشكلة أن هذه “الثورة الجمركية” تشبه طَرق الباب بعد أن غادر الضيوف وحذّر الرجل من نتائج هذه الوصفة الاقتصادية التي تمزج بين التهور والتضخم والفوارق الطبقية، داعيًا أوروبا لأن تشتري مظلة اقتصادية تقيها من مطر الركود الأميركي القادم.

أما الاقتصادي الأميركي بول كروغمان، الحائز على جائزة نوبل، فلم يكن بحاجة إلى مؤتمرات صحفية. كتبها ببساطة: “غباء خبيث” وقال كروغمان إن ترامب – كالعادة – يتصرف بعقلية نجم برامج الواقع: “لنُحدث صدمة، نرمي طاولة الاقتصاد أرضًا، ونبتسم للكاميرا!”.

وأضاف أن أميركا، التي بنت النظام التجاري العالمي، قررت اليوم أن تهدمه لمجرد أن “الزعيم” لم تعجبه الإضاءة في القاعة. وتساءل كروغمان: “كيف يمكن الوثوق بإدارة تتعامل مع الاقتصاد العالمي وكأنه حفلة شواء في حديقة البيت الأبيض؟”.

الصين تراقب… وتجهّز الشاي:

الخبير الصيني لي داوكوي لم يُخفِ سخريته، فقال إن تعريفة ترامب لا تُخيف التنين، بل تثير شفقة عليه. واصفًا السياسات الأميركية بأنها “استعراض للفشل”، يشبه من يحاول الهروب من الغرق بتوسيع الثقب في القارب وأكد أن بكين لا تنام، بل تُحضّر الردود وتُعزز الطلب الداخلي، فيما أميركا تنزف من أذرعها الاقتصادية، ولا أحد في واشنطن يجرؤ على قول الحقيقة: “القيصر عارٍ… ومفلس أيضًا”.

ومن غرب أفريقيا، قال الوزير التوغولي السابق كاكو نوبوكبو إن “الحمائية سلاح الضعفاء”، مشيرًا إلى أن ترامب يُدرك حجم الفارق مع الصين، فقرر أن يحارب بالقوانين بدل الابتكار وحذّر من أن هذه السياسات ستضغط على الاقتصادات الأفريقية المتعبة أصلًا، لكنها – بالمقابل – فرصة لتعزيز الإنتاج المحلي.

حتى نيجيريا دخلت السجال حيث قرأ الاقتصادي النيجيري بيسمارك ريواني،المشهد بسخرية سوداء، قائلًا: “الكبار هم من سيخسرون أكثر، لأنهم يملكون ما يخسرونه… أما نحن، فقد تعوّدنا العيش في ظل اقتصاد يتنفس تحت الماء”.

واشنطن تشتري نهاية مجدها:

مؤخراً استيقظت واشنطن على كابوس اسمه “700 ألف شركة صينية” تُشغِّل عشرات الملايين، لا تصنع القمصان فقط، بل تنسج القرار الاقتصادي العالمي بخيوط من يوان، لا تقطعه الرسوم الجمركية مهما علا صوت التهديدات .. فـ أمريكا ظنّت أن رفع الجمارك كفيل بعرقلة التنين، فإذا بالتنين يصدر نصف سلع العالم، بينما هي تغرق في استهلاكٍ لا تُنتج ما يسنده، وتتهرب من الاتفاقيات كما يتهرب الطلاب من دروس التاريخ، ظنًا منهم أن الماضي لا يُعيد نفسه. لكن الماضي عاد، وها هو “صندوق الجمارك” الأمريكي يُفتح، فإذا هو كعلبة صودا فارغة… تُصدر ضجيجًا فقط حين تُركل..وبدل أن تنشغل واشنطن بترميم اقتصادٍ غارق في ديون تجاوزت 34 تريليون دولار، اختارت أن تستثمر في المذابح، من أوكرانيا إلى غـ.ـزة، توزّع الأسلحة كما توزع الشعارات، وتمنح القتلة غطاءً سياسياً بدعوى “الدفاع عن النفس”، بينما جثث الأطفال تتكدّس على أبواب السماء، تشهد أن “حقوق الإنسان” في قاموسها لا تُطبَّق إلا إذا كان المقتول لا يرتدي الكوفية..لقد فشلت أمريكا في تطويق الصين كما فشلت في تبرير مجازر غـ.ـزة، وانكشف عجزها الاقتصادي مثلما انكشفت أخلاقها في ميادين االحرب .. لم تُقنع الناخب، ولم تُخضع العالم، وكل ما فعلته هو أنها دلّت الجميع — بحماسة من يفضح نفسه — على نهاية زمن الهيمنة.

وفي الختام، نذكّر واشنطن بما نسيت: أن الله لا يُموَّل.. ولا يُرشى.. ولا يصدّق نشرات البيت الأبيض وأن من زرع الاستكبار سيحصد الانهيار ولو بعد حين..فميزان العدل لا يُصنع في مصانع السلاح، بل يُدار من فوق سبع سماوات، حيث لا ينفع دولار، ولا تنفع دعاية، ولا تنطق فيه الصواريخ… بل تُنطق فيه الأيادي بما كانت تصنع.

Comments are closed.

اهم الاخبار