Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

قصة قصيرة “أمنية ماسح الزجاج”

أحمد السري

يدنو بقنينة مائه الأصفر وممسحته الزرقاء، يرش الماء على زجاج السيارة، ويبدأ المسح بهمة وأمل.

ينهره السائق بعنف ليتوقف، يستمر في المسح كأنه لم يسمع، يرتفع صوت السائق زاجرا ، يرتسم على وجهه غضب ناري، يأمر الفتى بالتوقف والابتعاد عن سيارته. يصوب الفتى نظرة للسائق، نظرة عتب وانكسار، نظرة حاجة مُذِلّة.  تتراخى يده بالتدريج، تبتعد عن الزجاج. تتركز نظرة الفتى على عيني السائق، يقول بصوت متهدج.. مئة ريال فقط، مئة ياطيب، ويبتعد، يبتعد بدون المئة، يمضي بساقين مرتعشتين تكاد تصطكان ببعضهما.. يلتفت بحزن وألم إلى وجه السائق في المرآة ويمضي، يرش ماءه الأصفر على زحاج سيارة أخرى بهمة متناسيا وجه زاجره الأول وصوته.

طابور السيارات طويل، يسقط رأس السائق على صدره ويطرق، تجتاحه صور الفتى، كيف تلون وجهه، وكيف تراخت يداه عن زجاج السيارة، كيف انكسرت عيناه بحزن وابتعد، رأى التفاتة الفتى الأخيرة إلى المرآة، رأى عينيه المملوءتين حسرة وألما.  انغرز في أحشائه إحساس مر، أسف جارح، انكسر قلبه  من نظرات الفتى المجروحة، رأى نفسه قاسيا جدا.  قال لنفسه: مئة ريال، لاقيمة لها مقابل جهد مفيد. زجاج السيارة نظيف والرؤية أفضل، أوجعته جدا نظرة الفتى، اخترقت أعماقه، انتشرت في خلاياه إبرا جارحة، استرجعها مرات عدة، بل التصقت في مخيلته ولم تغادرها.. مئة ريال فقط، أجر مستحق لمسح زجاج سيارة،  لا يتسول الفتى قال لنفسه، بل يقدم خدمة حقيقية؛ وإن تسول؟ ما ضير ذلك؟ أليست البلاد كلها تتسول من قمتها الى قاعها؟ ألم نصبح شعباً من المتسولين بأشكال مختلفة، الطوابير طويلة أمام مكاتب منظمات الإغاثة.. حتى الحقوق الشرعية يتم تسولها ولا تأتي. جميعنا يتسول هذه الأيام. هذا الفتى يعمل على الأقل، فَلِمَ يتحجر قلبي هكذا أمامه.. يالتلك النظرة ، أظنها لن تغادرني، أحس أحشائي تتمزق وضميري يتوجع.

لا يختفى وجه الفتى من رأسه، نظرته المنكسرة، صوته الذابل يقول (مئة ريال فقط).  ينزل السائق من سيارته، يبحث عن الفتى، وقد دس يده في جيبه وأخرج ورقة من فئة الألف ريال. يتلفت يمينا ويسارا، يرى الفتى في الخط الثالث منهمكا في مسح زجاج سيارة هناك، ينفتح خط السير وتعلو أصوات المنبهات كأنها في مهرجان جنون كامل.. يعود السائق الى سيارته ويبتعد.. وجه الفتى لا يفارق مخيلته.. يبدأ في تذكر مرات الصراخ السابقة على كل فتى أتى بقنينته الصفراء وماسحة الزجاج.. يغيضه أنهم يفعلون ذلك دون استئذان حتى عندما يكون الزجاج نظيفا..

يستفزه هذا السلوك، يستنفر غضبه ويخرجه عن طوره.. تساءل:  لم لا يبدل الحال فيقبل ببساطة أن يمسح زجاج السيارة، ولا يكترث إن لم تكن هناك مئة ريال متوفرة.، وقف في الجولة التالية، جولة الرويشان، اندفع فتيان جدد بين السيارات، جاءه أحدهم، رش ماءه الأصفر وبدأ بمسح الزجاج وهو ينظر بهدوء، لم يجد مئة ريال ليعطيه، فتح الزجاج وقال شكرا: أعطيك مئتين في المرة القادمة، قبل الفتى وقال ( عادي)، قالها بكرم وبوجه بشوش ومضى.. قال السائق لنفسه هذا الفتى أحسن مني .. استدار بسيارته وقف قريبا من الجولة الأولى، جولة ريماس.. نزل يبحث عن الفتى الذي لا تزال نظراته تخز أحشاءه كلها.. يقول لنفسه: مئة ريال فقط، حرك رجليه باتجاه الدوار، قطع الشارع ووقف في الرصيف الفاصل بين الاتجاهين، وقف يرقب مجموعة من الفتيان والفتيات يتسابقون  على مسح زجاج السيارات، شاهد بعض السائقين يعطي وبعضهم لا يفتح حتى زجاج السيارة ليقول شكرا. يتطلع في الوجوه لا يرى الفتى الذي يبحث عنه، كيف اختفى بهذه السرعة، هل يتنقل من سيارة لأخرى ويبتعد عن هنا.. ربما.. الألف ريال في كفه، قابض عليها وقد نذرها للفتى، لكنه لا يجده، يقطع الشارع ليعود إلى سيارته، يلتفت الى طابور السيارات وقبل أن تطأ قدمه رصيف المارة، ترتطم عيناه بالفتى جالسا، مسندا ظهره الى جدار طويل هناك، يأكل بيد قرص الروتي وباليد الأخرى يشرب شايا بعلبة حليب الممتاز، إنه يفطر إذن، وأدوات عمله بجانبه. وقف السائق بعيدا عنه بمترين أو زيادة، انتظر حتى أتم إفطاره، رآه يهم بالنهوض، اقترب منه.. قال: تعال تعال لو سمحت امسح زجاج السيارة انها هنا في المنعطف القريب، تأمله الفتى، تأمله مستغربا وقال متثاقلا.. حاضر.

أدرك السائق من نظرة الوجوم وفتور كلمة حاضر أن الفتى عرفه، لكنه تجاهل ذلك واستبقه إلى السيارة والفتى يتبعه.. رش الزجاج ومسح في أقل من دقيقة.. إنه محترف ويعرف كيف ينظف الزجاج بسرعة..

مد إليه الألف ريال.. نظر إليها الفتى، قال :

ما معي صرف، ما كان معي أفطرت به.. قال خذها، خذها كلها لك وسامحني على الصراخ قبل قليل.. قلّب الفتى الألف ريال في يده.. مدّها نحو السائق وهم بالكلام.. قال السائق لا تقل شيئا، أعرف أنك لا تتسول، خذها وامسح الزجاج كلما مررت من هنا.. تراجعت يد الفتى وهو ينظر للسائق نظرة ذهول واستغراب هذه المرة..

ركب السائق سيارته وانشغل الفتى بمسح المرآة المجاورة للسائق.. سأله السائق لتطييب خاطره أكثر..

– ما هي أمنيتك؟ ماذا تريد ان تكون في المستقبل..

– امنيتي أن اتعلم

– ألا تذهب إلى المدرسة؟

– المدرسة للأغنياء.. لا مكان فيها للفقراء

– ولماذا تريد أن تتعلم

– أريد أن أصبح طبيبا، فاخترع حبة دواء واحدة، من تناولها شَبِع شهرا كاملا..

حدّق السائق  في الفتى، حدّق طويلا حتى تزاحمت في عينيه دموع ومضى.

Share

التصنيفات: ثقافــة

Share