Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

حواجز.. معجزة.. نكبة.. وبقاء

نسب أديب حسين*

أستمع لبرنامج «سين2» للإعلامي أحمد الشقيري عن تطوير الصناعات والعمل على إنتاج سيارة طائرة، أستمع وأمتد وأتقلص في مقعدي لأفحص أين صار دوري على الحاجز؟ هل سأطير يوما فوقه؟
تبقى عشر دقائق لبدء الندوة التي أقصدها في رام الله، وقد مرّت ساعة على انطلاقي من القدس في سبيل قطع 17 كم بين المدينتين، ماذا سيقول الشقيري عن حالنا، وعن الوقت الذي نضيّعه على الحواجز؟ تُرى هل سيزيد الاحتلال من أدوات عقابنا بالتخلف أكثر ممّا فعل حتى الآن، ومدننا كانت في أوائل ركب المدن العربية قبل الابتلاء به؟
آتي هذا الحاجز في طريق التفافية لوصول مقصدي، سعيا لتجاوز أزمة السير، لكن دوما النتيجة نفسها في مضيعة الوقت. نتعارك أصحاب المركبات على الدور، وينصب غضبنا على بعضنا، يرتفع صوت أبواق السيارات، ويستمر العراك حتى الوصول إلى النقطة المنشودة، وأدخل قرية الجيب.
هنا يداهمني الشعوران المتناقضان ذاتهما، وأنا أدخل الضفة من هذا الحاجز، ولكلّ حاجز تجربة ومرار مختلف، يؤلمني مشهد العمال وهم عائدون إلى ديارهم من العمل في الداخل، سائرين في مسلك من شِباك، أراه يمس كرامتهم وكرامتنا جمعاء. وفي الوقت عينه عندما أترك لعينيّ تنظران إلى اليمين إلى الحقول الممتدة على سفح التل، والبيوت تحيطها الأراضي، والفلاحون ينتشرون فيها يبذرونها، أشعر بروحي تنطلق في هذا المدى الجميل، أتخيّل الوطن دون جدار، وينشرح صدري بهذا المشهد القروي المعطّر للروح. الأزمة تستمر بعد الحاجز، سأتأخر نصف ساعة على الندوة، وكنت قد وعدتُ منار أنّي سأبذل قصارى جهدي على الحضور، قد لا تراني حين أصل، وتظنني خذلتها.
هل أكتب عن هذا لدانييلا لأعطيها نموذجا عن الحياة تحت وزر الاحتلال؟ إذ حاولتُ أن أشرح أمس لهذه الصحافيّة الإيطالية أنّ هناك أثمانا ندفعها في يومياتنا بسبب الاحتلال، غير قابلة للتعويض أو المسامحة إلى جانب ذاكرة الدم على مدى 75 عاما، فيما لو طُرحت حلول للسلام، تفاصيل يصعب أن أشرحها في جلسة واحدة حول طاولة، بل ربّما لو رافقتني هي والوفد الإيطالي الضيف إلى القدس، ومشينا معا، لظهرت بعض النماذج حالا.
أسعى للقاء أدبي لفك قيد عن أسير، ويتجه فكري للأسير الشهيد الشيخ خضر عدنان، أشعر بمرارة وحرقة داخلية، منذ صباح أمس مع نشر خبر ارتقائه، أستذكر اضرابه الشهير عن الطعام عام 2012، الذي مثّلت نجاته منه معجزة ليحصل على مطلبه بالتحرر من الاعتقال الإداري. أحيانا في اللحظات الفارقة ننتظر المعجزات، أن يحصل شيء يبدد خوفنا ممّا هو آت، لعلّ قتامة الواقع تنجلي، لكنّ المعجزة لم تحصل هذه المرّة وبعد إضراب 87 يوما في زنزانة انفرادية استشهد الشيخ خضر، مثلما استشهد ناصر أبو حميد مريضا أسيرا، دون أن تحضنه أمّه مثلما حلمنا أن يحصل، ومع كثرة دمنا المستباح هذا العام، يزداد الثقل في الروح، حتّى تخشى أن تعترف لنفسك أنّك تتدحرج إلى هاوية اليأس.

أصل إلى متحف محمود درويش أركنُ السيارة وأسارع في صعود أدراج حدائق البروة، أدخل القاعة وأسعد بوجود جمهور يليق بتكريم الأسير، حين اتخذت مجلسي، فهمت أنّه لم يفتني الكثير، مع طلب الوقوف دقيقة صمت على روح الشيخ خضر عدنان والشهداء، التقت نظراتنا منار وأنا، وابتسمت لي وابتسمتُ لها. عرفتني وعرفتها وجدتها خلال إلقاء كلمة خطيبها أكثر جمالا وإصرارا وقوّة ممّا تخيلت عبر صورتها، أو ممّا شكلته في مخيلتي عنها عبر مراسلاتنا. منار خلاوي التي يلقبها أسامة الأشقر منارة الأمل، تمكنت من جذبه من عمره المصادر خلف جدران السجن، بعد أن تحدت كلّ ما هو واقعي بالارتباط به، ولم تكن قد التقت بعد إلا بصوته وكلماته، وها نحن بفضل هذا الحب نجتمع، وجزءٌ من أسامة معنا، منار ومراسلاته. وكان لي نصيب برسالة منه قبل 4 سنوات، ومنار وسيلتي لأرد عليها. عند الدعوة لتقديم المداخلات شعرتُ بأنّي أود قول الكثير لمنار ولأسامة، لكن في ظلّ عزيمتها وقوّة مواجهتها الصابرة للفراق، ومصابرة الأم.. ماذا سأقول لهما وأنا أعاني في الفترة الأخيرة من نقصٍ شديد في مستوى الأمل في دمي، وغارقة في الصمت.

لا أستطيع أن أمدّهما بالأمل، بل أتيت من القدس ومن الجليل كي أرمّم روحي بلقائهما في رام الله، مثلما أفعل منذ عدّة أيام، لأشفي بالنظر إلى علم وطني روحي من التشويه البصري المزدحم برفرفة الأبيض والأزرق، كيفما تجولت في القدس، لأبتعد عن ذكرى غطرسة احتفاء محتلنا بنكبتنا، لأبتعد عن عاصفة «تيه الهوية» التي أتت على دياري هناك في الشمال، وعن شعوري بالعجز والغضب الشديد، وكم يصعب عليّ أن أصمت عمّا يغضبني. ماذا أقول في حضرة أهالي الأسرى أو الشهداء؟ وكلّ الكلمات أقل من أن تُقال، أظنُ العيون أصدق من تقول. ولذا بعد الندوة توجهت إلى الأم، أم أسامة لأتمنى له السلامة، فقابلتني بسؤال: من لك في السجن؟
فاجأني سؤالها، وأجبتُ: ابنك أسامة يا خالة.
اتسعت ابتسامتها، لتنفرج بعض أخاديد الهمّ عن وجهها وسألت: أأنت أخت أسامة؟
أجبتُ إيجابا، ضمتني وهي تقول: لأسامة أخوة كثر في كل مكان.
وأنا أهزّ رأسي إيجابا.
عند حاجز قلنديا هذه المرّة ووسط الانتظار لليوم الرابع على التوالي للعودة إلى القدس، أتأمل البدر فوق الجدار الفاصل، يرن هاتفي معلنا عن وصول رسالة « 5 قتلى اليوم في الداخل المحتل». قُتل في حارتي في رامة الجليل في نصف العام الأخير ثلاثة أشخاص، وهذا صار يدفعني أن أردد «الحمد لله أينما ذهبت «أكشن» وخطر الموت». هذا الموت المجاني في الداخل حصد منذ مطلع العام 72 شخصا بزيادة عصابات العنف، دون أيّ أمل بغد أفضل.. هل ستدرك دانييلا وغيرها من الوفد الإيطالي هذا الثمن الآخر غير المباشر؟ حين تتحوّل همومنا إلى قطع الحاجز في أسرع وقت، والحصول على الأمان، همّنا أن نبقى على قيد الحياة، فيما يزداد التقدم والصناعات في دول عربية عديدة أتساءل أين فلسطين من كلّ هذا؟ نحن في آخر الركب في الدفاع عن الوجود في معركة لا ندري متى ستنتهي؟ الحكم على أسامة 8 مؤبدات و50 عاما، هذا الحكم المصادر للوقت والساعي لفقد الأمل.. من أين يأتي الأمل؟ أتخيّل منار وهي تعيش إيمانا بمعجزة ما تختصر هذا الزمن وتجمعها بحبيبها، أتخيّل قوّة الحب في قلبها لتحتمل الوجود الظل له معها، دون أيّ أمل واقعي باللقاء خارج جدران الأسر، ورغم ذلك تمدّنا بالإيمان أنّهما قد يجتمعان يوما ما، ما دام الحب حيّا.
يصل دوري أرفع هويتي مقابل الجندية الشقراء، تهزّ رأسها وأتقدمُ ببطء، وتنتقل عينيّ إلى الشرطي خلفها، تلتقي عيناي بعينيه وأدرك أنّه من «التائهين في هويتهم» أحدجه فيركزّ في عينيّ، وأستمر في التقدم نحو القدس.
قيل لي وسط ترميم الروح هناك في رام الله: لا تيأسي.. «استمري بقرع الخزان».. لا تيأسي من قرعه. أستشعر منسوب الأمل في دمي الآن.. أشعر بأنّي أفضل، لأستمر من جديد.. أدرك أنّ ليس أمامي خيار آخر.

كاتبة فلسطينية

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share