Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

بعض أبرز نماذجه شعر الخنساء في رثاء أخيها صخر: التأسّي بالشِعر

عبدالواحد لؤلؤة

في تراث الشعر العربي، قديمه وحديثه، وجوهٌ قد يفيد القارئ والمتأدِّب أن يستعملها للتعبيرِ عن مشاعر خاصة، مثل متابعة أمثلة من شعر الرثاء. وثمة مثالٌ عجيب من الرثاء، في التراث المشرقي السومري، في ملحمة كَلكَامش 2100 ق .م. هذا البطل الذي ثُلثُه بشري وثُلثاه إلهي يرثي صديقه الأثير أنكيدو عند موته، بلغة بشرية فيها من العواطف ومشاعر الحب – الصداقة ما يألفه البشر في ماضيهم وحاضرهم. فكانت ملحمة كَلكَامش أول نصٍّ شعري عرفته البشرية.
وفي الشعر العربي القديم نجد الكثير من شعر الرثاء، ربما كان أبرزه شعر الخنساء (575- 645م) في رثاء أخيها صخر:

يُذكِّرني طلوعُ الشمس صَخراً / وأندُبُه لكل غُروبِ شمسِ
ولولا كثرة الباكين حولي / على إخوانهم لقتلتُ نفسي
وما يبكونَ مثل أخي ولكن / أعزّي النفسَ عنه بالتأسّي

وثمة مثال من روعة التعبير عن الحزن والأسى في شعر المُخضرم الصحابي مُتمِم بن نويره، في رثاء أخيه مالك:

وقد لامَني عند القبورِ على البكا / رفيقي لتَسكابِ الدموع السوا فِكِ
وقال: أتبكي كلَّ قبرٍ رأيتَه/ لقبرٍ ثوى بين اللِّوى فالدكادِكِ
فقلتُ له: إن الشَجى يبعث الشَجى/ دعوني فهذا كلُّه قَبرُ مالك ِ

ولا يوجد في عصر صدر الإسلام الكثير من أمثلة الرثاء لأن الإسلام يرى أن الموت قضاء من قدر الله، وكأنه يقول إن الرثاء نوع من الاعتراض على إرادة الله. وقريب من ذلك قلّة أمثلة الرثاء في العصر الأموي. لكن الوضع اختلف في العصر العباسي، فثمة الكثير من أمثلة الرثاء للأمراء والخلفاء، وليس من الخطأ القول إن أغلبها يتميز بالنفاق ولا يعبِّر عن عاطفة صادقة. وقد نستثني من ذلك مثالاً من المتنبّي ومثالاً آخر من أبي العلاء المعرّي. فتذكر كتب التاريخ أن المتنبّي كان يُحب «خولة» أخت الأمير سيف الدولة الحمداني، ولو أن بعض المؤرخين يشكّكون في صحة هذا الحب، ويحسبون أنه نوعٌ من التقرّب إلى السلطان عن طريق المصاهرة. ولكن المتنبّي كان قد عاد إلى العراق وعند وصوله سمع بخبر وفاة خولة أخت أمير حَلب، سيف الدولة الحمداني، فنظم هذه القصيدة:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ / فَزِعتُ فيه بآمالي إلى الكَذِبِ
حتى إذا لم يَدَع لي صدقُه أملاً / شرِقتُ بالدمع حتى كاد يشرق بي
أرى العراق طويل الليل إذ نُعِيَت / فكيف ليلُ فتى الفتيان في حَلَب
يا أحسنَ الصبر زُرْ أولى القلوب به/ وقُل لصاحبه يا أنقَعَ السُحُب.

يأخذ «التأسّي» هنا صورة» أحسنَ الصَّبر» لأن ليس بمقدور الإنسان اعتراض القدَر، وهو الشعور نفسه الذي كان يخيِّم على البشر عندما كان ليس بمقدوره مواجهة القَدَر.
والمثال الآخر من شعر أبو العلاء المعرّي في قصيدته الكبرى:

غيرُ مُجدٍ في مِلّتي واعتقادي / نوحُ باكٍ ولا تَرنُّم شادي
وشبيهٌ صوتُ النَعيِّ إذا قيس / بصوتِ البَشيرِ في كلِّ نادي
تعبٌ كلُّها الحياةُ فما أعجب / إلاّ لراغبٍ في ازديادِ …..
صاحِ هذي قُبورُنا تملأ الرُحبَ/ فأينَ القبور من عهدِ عادِ…
واللبيبُ اللبيبُ من ليس يغترُّ / بكونٍ مصيرُهُ للفساد.

و»التأسّي» هنا يتخذ صورة «حكمة الصبر» إذ ليس بمقدور الإنسان مقارعة القَدَر.
وفي العصور اللاحقة تطوَّر التأسّي بالشعر إلى نوع من البَرَم بظروف الحياة، واتّخذ شكل نقدٍ وهجومٍ على ظواهر وأحداث ليس بمقدور الإنسان منع حدوثها أو إبعادها عن طريقه، مثل ما كان الشاعر الجاهلي غير قادر على دَرء المصائب والأحداث. ولعلّنا نجد ما يكفي من الأمثلة في شعر نزار قباني. ففي قصيدة بعنوان «قطار الأحزان» يشكو الشاعر من ضياع الإنسان المعاصر وفقدان توجّهه ومقصده في الحياة:

« أركب آلاف القطارات/ وأمتطي فَجيعتي/…./ يسألني مُفتش القطار عن تَذكرتي/ عن موقفي الآتي/ وهل هناك موقف آتي؟/…./ ولا رصيفَ لي/أقصدُه… في كل رحلاتي/ أرصفتي جميعها هاربةٌ/ هاربةٌ منّي محطاتي».

وفي قصيده بعنوان «الطابور» يشكو الشاعر من القوانين التي يفرضها الحاكم «من أجل تنظيم الحياة!!!» فيُرغم الناس على الوقوف في الطوابير من أجل الحصول على ما يطلبون من الأشياء التي لا تتطلب موافقة الحاكم:
«طالبتُ ببعض الشمس،/ قال رجال الشرطة:/ قِفْ يا سيِّدُ في الطابور/…/ طالبتُ بأي كتاب أقرأ فيه/ فصاح قميصٌ كاكيٌّ/ من كان يريد العِلم/ فإن عليه قراءةَ منشورات الحِزب/ وأحكام الدستور/…/ طالبتُ برؤية وجه الله/ فصاح وكيلٌ من وكلاء الله:/ (لماذا؟) / قلتُ لأني إنسانٌ مقهور/ فأشار إليّ بإصبعه/ وفهمتُ بأن المقهورين/ لهم أيضاً طابور/…/ من يوم أتيتُ إلى الدنيا/ وأنا مزروع في الطابور/…/ منتظرٌ وطناً لا يأتي/ وشواطئ دافئةً وطيور/…/ وهذا الوطن القابع بين الماء وبين الماء/ حزينٌ كالسيف المكسور/ فإذا ودّعنا كافوراً/ يأتينا أكثرُ من كافور…».

وامتدّ التأسّي بالشعر نقداً وهجوما ًخارج الشؤون الشخصية فدخل مجال المجتمع والسياسة بشكل خاص، ولكنه بقي تعبيراً عن الروح العامة للإنسان العربي المعاصر. وربما كان أبرز مثال على ذلك قصيدة «هوامش على دفتر النكسة» لكن هذه الهوامش أكثر قسوةً مما نجد في متن الكتاب. تبدأ القصيدة بالثورة على اللغة نفسها:
«أنعي لكم يا أصدقائي اللغةَ القديمة/ والكتبَ القديمة/ أنعي لكم/ كلامَنا المثقوب، كالأحذية القديمة/ ومفرداتِ العُهر، والهجاء والشتيمة / أنعي لكم، أنعي لكم/ نهاية َالفكر الذي قاد إلى الهزيمة».
اللغة هي أدوات الشاعر يصوغ بها ما تجود به قريحته من كلام جميل في الحب والعواطف الإنسانية. ولكن هذه اللغة الجميلة قد ماتت وها هو الشاعر ينعاها، لأن الوطن الحزين قد حوّله «من شاعر يكتب شعر الحُبِّ والحنين/ لشاعرٍ يكتب بالسكّين». ولا غرابة، يقول الشاعر، أننا قد خسرنا الحرب «لأننا ندخُلها/ بكلّ ما يمتلك الشرقي من مواهب الخطابة/ … /لأننا ندخلها/ بمنطق الطبلة والرَبابة». ويشعر هذا المواطن المحزون بأنه قد أطال التبرّم، فليختصِر:

« خلاصة القضيّة/ توجز في عبارة/ لقد لبسنا قشرة الحضارة/ والروح جاهلية».

مثل ما ترثي الخنساء أخاها صخر بحُرقة، وتَصِفه بأنبل الصفات وأشرفها، كذلك نجد الشاعر المعاصر في صورة نزار قباني يرثي حبيبته وزوجته بلقيس، التي «كانت أجمل الملِكات في تاريخ بابل… أطول النخلات في أرض العراق/ كانت إذا تمشي ترافقها طواويسٌ وتتبعها أيائل». لكن الذين قتلوها «قبائلٌ أكلَت قبائل، وثعالبٌ قتَلت ثعالب»… فها نحن «ندخل مرّةً أخرى لعصر الجاهلية/…/ ندخل مرةً أخرى عصور البربرية» ويتوقف قليلاً وسط هذا التدفّق من أوصاف المديح المُلتاع ليقدِّم ما يشبه الاعتذار عن الإطالة في المديح:
«بلقيس/ ليست هذه مرثيةٌ/ لكن على العرب السلام». هذه الخاتمة هي كل ما يتوصّل إليه مُفكِّر مُعاصِر مفتوح العينين والقلب، يردِّد مع الشاعر: «وأقول: إن عفافَنا عُهرٌ/ وتَقوانا قَذاره/ وأقول إن نضالنا كذبٌ/ وأن لا فرق/ ما بين السياسة والدَعارة!!!».
قد تكون هذه الكلمات القاسية هي المتنفَّس الوحيد أمام الشاعر- الإنسان العربي المُعاصِر الذي يدرك «أن زماننا العربي مُختص بذبح الياسمين/ وبقتل كل الأنبياء وقتل كل المرسلين… حتى النجوم تخاف من وطني/ ولا أدري السبب /…/ هل موت بلقيسٍ هو النصر الوحيد/ بكل تاريخ العرب؟».
ويتساءل الشاعر-المواطن العربي المعاصر: أما كان أجدى بالقتلة من أصحاب السياسة والرياسة «لو أنهم حَملوا إلينا / من فلسطين الحزينة/ نجمةً أو برتقالة/ لو أنهم حملوا إلينا/ من شواطئ غزةٍ/ حجراً صغيراً/ أو محارة/ لو أنهم من ربع قرن حرّروا/ زيتونةً/ أو ارجعوا ليمونةً/ ومحوا عن التاريخ عاره؟».
وهكذا يكون الحزن الشخصي هو الإطار الذي يدور حول مأساة الحياة العربية المعاصرة.

Share

التصنيفات: ثقافــة

Share