Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

عبد العزيز المقالح..آخر قلاع القومية الثقافية والفكرية العربية

أعد البروفايل: محمد محمد إبراهيم

في يوم ملحمي استعاد ذاكرة الوجدان اليمني تحت نسق الهوية الثقافية والإنسانية الجامعة لكل أطياف اليمن والمجتمع العربي، احتشدت رموز الثقافة والفكر والإعلام والصحافة والسياسة في العاصمة صنعاء ضحى 16 إبريل 2019 حول القامة اليمنية العروبية السامقة عبد العزيز المقالح – بروفيسور الشعر العربي وناقده وقائد أجياله الحداثية وذلك بمناسبة اعلان جائزة أمير الشعراء أحمد شوقي التشرف بإضافة اسمه إلى قائمتها كأول شاعر عربي ينالها من خارج جمهورية مصر العربية، والتي أعلن عنها اتحاد كتاب مصر في 21 مارس 2019، في احتفاليةٍ تزامنت مع يوم الشعر العالمي.
هذا اليوم الملحمي لا يقل حضورا ذهنيا في الذاكرة اليمنية بيوم الـ22 من مايو 1990م الذي جمع اليمنيين على صعيد وحدوي واحد في مشهد تاريخي لن ينسى.. أقول هذا ليس من قبيل المبالغة، فالدعوة الـتي أطلقها المفكر الاجتماعي الدكتور حمود العودي على منصات التواصل الاجتماعي قبل حفل التكريم بيوم: (كرموه أنتم. فأنتم أولى به.. باقة ورد وعقد فل. إملأوا القاعة ورداً وفلاً، اتركوا السياسة وأهلها فليسوا سوى أدوات… فقط من الشعب لابن الشعب وضميره).. فلم تمتلأ القاعة فحسب فقد امتلأت القاعة وتشرفت منصتها بحضور عبد العزيز المقالح الذي تحامل على ظروفه الصحية بصعوبة ليكرم هذا النقاء بحضوره النبيل، بل فاضت القاعة إلى الأزقة المؤدية للشارع العام، وأمتلأ المكان بشرا نخبويا وحضورا جماهيريا وصل آخرهم من المحافظات البعيدة، ليفصح المكان والحي ومنصات التواصل الاجتماعي والاعلام والصحافة بحب عبد العزيز المقالح الذي سنتتبع في هذا البروفايل المتواضع جانبا من اشراقاته… إلى التفاصيل:

 

“نِعْم الأديب، نهر هذه البلاد الذي لم ولن ينقطع.. نعم الرجل الذي هو محور هذا الكون اليمني بسماواته العربية”.. بهذه الكلمات استهل الاستاذ عبد الرحمن بجاش – أحد أهم أعلام الصحافة اليمنية ومثقفيها- كلمته الاحتفائية الخاصة.. مسترسلاً حديثه المعمد بدموع الصدق، ساردا سيرة النضال الثوري والإسهام التنويري المبكر لشاعر اليمن الكبير عبد العزيز المقالح منذ ما قبل فجر الثورة السبتمبرية واعلان الجمهورية.. عبد الرحمن بجاش لم يكن هو المتحدث وحده لقد تحدث في الفعالية التكريمية الإعلامي والمثقف الكبير يحيى العرشي وزير الاعلام سابقا ووزير الدولة لشؤون الوحدة اليمنية في الثمانينات، وتحدث المفكر الاجتماعي حمود العودي، والشاعر اليمني الكبير محمد عبد السلام منصور وغيرهم من رموز اليمن النخبوية.

السيرة الملحمية

عبد العزيز المقالح الشاعر والناقد والمثقف اليمني والعربي الكبير، جاء الى الحياة في 1937م في قرية المقالح محافظة إب ليصير واحدا من أبرز أعلام الحركة التنويرية والتحريرية والحراك الثوري، ورائد الحداثة والتجديد الأدبي المعاصر في اليمن والوطن العربي، وهو إلى جانب ذلك ثائر الكلمة المخضرم عاش مآسي الوطن، ونضج فكره وابداعه على نار أحداثها المؤلمة، ولم يبتعد عنها في أقسى الظروف، بل ساهم في صناعة التحولات التي أخرجت هذا الوطن إلى بر الأمان. عاصر عن قرب أبرز رواد الأدب العربي والعالمي المعاصرين في القرن العشرين وحظي بتقديرهم الكبير.. ربما لأنه بنا صداقاته وعلاقاته الانسانية على إيقاع الصدق والكلمة والحب والابداع بعيداً عن طوباوية المادة وتمدد المظهريات وإغواءها.
يتحاشى دائماً الحديث عن ذاته ومآثره ونجاحه حتى وأنت تصر عليه بأسئلتك.. إذ تظل الابتسامة الصادقة والحديث عن العموميات وأدوار الآخرين وعدم ظلمهم أو اقتفاء ظلهم السلبي، هي الإجابة الأقرب في أحاديثه السهلة الوصول الى القلب، وفي مقيله الدائم – الذي يحضره رواد الكلمة والفكر والثقافة ليس محلياً ممن عايشهم أو من الشباب الناشئين والمفعمين بحبه الخالص، بل عربياً وعالمياً- يحلق بمحبيه تارة في سماوات الجمال اللامتناهي معرفة وإبداعاً وفناً أصيلاً لا يخلو من الصبغة القومية العربية. وتارة بحديث وملاحظات متوجة، بابتسامة خجولة تمطر شيئاً من فلسفة التأمل، وحزناً من شجن القصيدة.
المقالح فوق هذا وذاك مثقفاً موسوعياً يمتلك الرؤية الثاقبة والمسموعة ليس وطنياً فحسب بل وقومياً فتراه مبادراً ومناقشاً مختلف القضايا المصيرية التي تمس الأمة العربية والاسلامية والإنسانية جمعاء. وفي صدور أبرز الصحف والجرائد العربية النخبوية والجماهيرية.. وبطرحٍ ثريٍ يتجاوز تلكؤ الغموض وشطحات المجاملات.. وليس غريباً هذا أو مبالغاً فيه، فالمقالح أديب وأكاديمي وباحث فكري وثقافي وأدبي من النسق الناضج والرعيل التنويري المعاصر، حيث أثرى المكتبة العربية بأمهات الكتب من ابداعه الشعري ما يزيد عن 18 كتاباً أو ديواناً شعرياً مفعما بحب الناس وعامراً بلغة الخطاب الشعري المتميز، وما يزيد عن 28 إصداراً من الدراسات والمراجع الأدبية والفكرية.. وحاز إبداعه الشعري على اهتمام الدارسين والباحثين في الجامعات اليمنية والعربية بين دراسات نقدية ورسائل ماجستير ودكتوراه، وترجمت بعض أعماله إلى اللغات الأخرى. وتشرفت باسمه عدد من قوائم الأوسمة والجوائز الإبداعية ذات القيمة الاستحقاقية العالية محلياً وعربياً وعالمياً، والتي من أبرزها وسام الفنون والآداب – عدن عام 1980م، وسام الفنون والآداب صنعاء 1982م. جائزة اللوتس عام 1986م. جائزة اليونسكو باريس 2002م. جائزة “الفارس” من الدرجة الأولى في الآداب والفنون من الحكومة الفرنسية، 2003م. وجائزة الثقافة العربية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 2004.م وفي العام 2010م حصل على جائزة العويس الثقافية في دورتها الـ(11). أخيرا جائزة أحمد شوقي للإبداع الشعري – مشاركة مع الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي- 2019م.
المقالح فوق هذا الحضور الكبير، ورغم أن زواره في عمله مركز الدراسات والبحوث اليمني الذي يترأسه هم من الوزراء والساسة وأرباب الفكر والعلم والأدب اليمني والعربي والعالمي، إلا أن بإمكان أي انسان أو طالب علم مقابلته في أي وقت وبدون روتينيات المواعيد الرسمية، فالعمل اليومي الدؤوب هو الموعد الدائم عند المقالح لكل ذي حاجة بحثية أو علمية أو انسانية، وليس لتواضعه الفطري فحسب بل لكونه الأب الروحي والمرجعية الثقافية والإبداعية لكل أجيال البلد المعاصرة منذ خمسينيات وستينيات القرن المنصرم..

آخر القلاع القومية الثقافية

إن الحديث عن المقالح كآخر قلاع القومية الثقافية والفكرية العربية، لا مبالغة فيه، فيمنياً يعد الوجهة الأهم والأولى والعلم الأبرز لكل القامات العربية والعالمية والفكرية والثقافية والفنية، فلا يفكر أحد من هذه القامات بزيارة اليمن إلا وتصدرت قائمة مهامه مقابلة المقالح كوجه يمني عربي أصيل يختزل معاني الحداثة والعروبة والقومية والإنسانية، بإبداعه الذي ملأ الآفاق وبأكثر اللغات.. وعربيا قومياً تجذرت في شخصيته الثقافية والفكرية الفذة كل قيم ومعاني الوحدة العربية، وأساسات النضال الفكري باتجاه الانتصار لهذه القومية.. وفي هذا السياق يقول الدكتور محمد عبد السلام منصور – شاعر يمني كبير لازم المقالح من أواخر خمسينيات القرن الماضي، ولم يزل اليوم نائباً له في مركز الدراسات والبحوث اليمني- : منذ أن عرفت المقالح وهو يدِّرس في المدرسة المتوسطة ثم في الثانوية بين 1958-1962م وهو يدرس الأدب العربي، كان شديد التعلق باختيار النصوص -التي يدرسها- ذات الصلة بتأكيد واحدية عروبة الأقطار العربية، مشددا على ضرورة توحدها بعد أن فتتها المستعمرون قبل الحرب العالمية الأولى التي ما أن انتهت حتى بادرت قوى الاستعمار إلى تأكيد هذا التقسيم باتفاقية “سايس بيكو”.. وكانت تلك النصوص التي يختارها المقالح بشغف وانتماء كبيرين، تؤكد أن للعرب قيم ثقافية وروحية وتاريخية وحضارية وأخلاقية تؤكد على الدوام أنهم يشكلوا قومية متكاملة، وأنهم عبر الدول العربية الراشدية والأموية والعباسية كانوا يتنقلون من قطر عربي إلى آخر دون أن تكون ثمة انتماءات جنسية أو هوياتية أو جغرافية تنسبهم إلى البقعة الجغرافية التي يقطنونها..
وأضاف منصور: وبعد أن برز المقالح كشاعر لافت للمشهد الشعري اليمني والعربي كانت أولى نصوصه تمجد الدعوة التي تؤكد وحدة الأقطار العربية كي يكون للعرب كأمة شأنا سياسي وثقافي وحضاري بين الأمم الأخرى.. وعندما كان المقالح رئيسا لجامعة صنعاء، كان يزوره رموز الثقافة والفكر العربية والعالمية، وكان المقالح شديد الاهتمام العلمي والمعرفي والأكاديمي فكانت الجامعة في عهده تعقد الندوات العلمية والأكاديمية والثقافية والفكرية التي أثرت المشهد الثقافي اليمني، وجعلت صنعاء وجهةً لرموز الحركة التنويرية في الاقطار العربية والعالم خصوصا تلك الندوات التي حضرها كبار الساسة والمثقفين والمفكرين العرب والعالميين.. كما انعقدت في اليمن المهرجانات الثقافية والشعرية والفنية التي أحياها عدد من اتحادات الشعراء العرب والعالم.. موضحاً أن هذا العطاء والجهد جعل المثقفين والمفكرين العرب ينظرون للمقالح باعتباره بوابة العالم إلى الثقافة العربية واليمنية، وقد أُجْرِيَتْ مقالات ودراسات نقدية أدبية وفكرية ركزت على اهتماماته بمقومات القومية العربية القديمة والمعاصرة.
أما الكاتب عبد الرحمن بجاش فيقول في هذا السياق: وفي مطلع ثمانينيات القرن الماضي تزامن صدور الملحق الثقافي لجريدة الثورة -الذي تزينت صفحاته بالمقالح اولاً، ابو بكر السقاف، يوسف محمد عبد الله، عبد الودود سيف، عبد الباري طاهر، علي حمود عفيف وصفحة اللغة- بأقلام تدفقت من مصر بفضل الأب الروحي د. عبد العزيز المقالح الذي كان يطلب منا (أنا والاستاذ إبراهيم المقحفي) عمل حوارات صحفية ثقافية مع أبرز الرموز النخبوية من أصدقائها المصريين في صنعاء ومنهم احمد دحبور، وفاروق خورشيد، وغيرهم، وكان المقالح حلقة الوصل بيننا والموجه الأساس ليخرج الملحق عبقا بالكلمة الاسمى: رواية لعبد الله علوان، مقالة لمحمد انيس عودة، وفؤاد عبد العزيز، وكل اقلام الطيف الثقافي من القاهرة الى صنعاء.. كان ذلك عقب ذهاب السادات إلى القدس في تلك الزيارة التي لم نزل نتجرع ويلاتها الى اللحظة، تدفقت القاهرة الى صنعاء، وفيما بعد بعث الناقد العربي الشهير الدكتور عبد القادر القط رسالة إلى الدكتور عبد العزيز المقالح يقول له وهو يشْتَمُّ رائحة حبر حروف ملحق الثورة الثقافي الصادر من صنعاء: “لم اكن اتخيل أن القاهرة ستنتقل الى صنعاء”..
ذلك هو تاريخ المقالح القومي العريض الذي لا ينكره أحد، اليوم ورغم ما يعيشه الوطن العربي من تشظي كبير إلا إن المقالح لا يزال يؤمن إيمانا صادقا بأن الثقافة هي المفاعل السحري لتجاوز هذه المحن، ودائماً ما يجيب على سؤال التراجيديا المؤسفة التي يعيشها العرب بقوله: إن النتاج الثقافي الأدبي هو الاستثناء الحيوي في هذا الواقع المتشظي وشديد التردي. صحيح أن الوضع الثقافي بالمعنى العام لم يبرأ من تأثيرات المحن الراهنة لكن الجانب الأدبي منه كالشعر والرواية ما يزال يقاوم الخواء ويقدم من النماذج الإبداعية ما يبعث على الإعجاز. ربما لأن الأدب الرفيع خاصة، يتغذى بالمحن وتبلوره الأزمات فيحاول نقل صورة عما يحدث بقدر من الشجاعة والانفلات من أسر اللحظة المأزومة..
وفي قصائده خصوصا التي كتبها في الأعوام الأخيرة يعبر المقالح بأسى كبير عن حالة التنافي والصراعات التي يشهدها الجسد العربي الواحد، معتبراً جاهلية عرب ما قبل الإسلام أقل خطراً وضررا، من جاهليتنا سواءً على كيانهم القومي أو على وحدة مشاعرهم تجاه الغزاة ودعاة الضمّ والإلحاق.. لكنه في خضم هذا الواقع المؤسف متمسكاً بالأمل تجاه حلم الوحدة العربية، زاجراً بصرامةٍ كل من يروّج لأمنيات أعداء وحدة أمتنا العربية، في تلاشي أو خفوت هذا الحلم في كوارث ما يجري.. فيقول في قصيدة “ديستوبيا” التي عبرت بدقة عن حالة الفوضى والخراب الذي أصاب الأمة العربية :
(هي “ديستوبيا “/ تبتدي من مياه الخليج/ ولا تنتهي في مياه المحيط/ تقوم على فائضٍ من غنىً فاحشٍ/ بيد أن بنيها جياعٌ/ هُزالى./ يلاحقهم موتُهم في القرى / والحواضر/ أطفالُهم .. يا لحزني / حفاةٌ عراهْ)

المقالح.. الحرب والسلام

إن الغوص عميقا في تفاصيل سمات المقالح الشخصية -كثائر مسالم- ودماثة أخلاقه المقرونة بتعدد المواهب يعني الغرق الحتمي في محيط سيرته الإبداعية الوافرة بتفاصيل الكفاح والإنجاز المعرفي والنقدي والفكري والشعري والصحفي السياسي التنويري والسجالي الفكري المعمد بلوازم الإقناع الصادر عن أناقة المقالح اللغوية السهلة في مسار تقديم هوية الأمة العربية والإسلامية والدفاع عنها، والرؤى النيرة للمشروع العربي القومي كأمة، وفق سياق نضالي يرفض الحرب ويؤمن بالسلام.. ويكفي الإشارة في هذا المقام إلى إنه لم يزل القلعة الوارفة بظل الوسطية والاعتدال فعنده يتوقف اليسار واليمين والوسط والسلطة والمعارضة، وهم في أوج صراعاتهم، وهذا الالتقاء لا يعني غياب الموقف أو الرأي الشجاع في أعمال وأحاديث المقالح، فقد أنذر الساسة اليمنيين والعرب من مغبة تجاوزوهم لدعوات السلام، لكنهم رفضوا السلام ليختار الموت على مشاهد الدمار والخراب، ولكن في سياق واضح لا يزال يذكرهم بمآسي الحروب حيث يقول في قصيدة له تحت عنوان “دثريني”:
دثّريني / وشدِّي على كفني/ واكتبي فوق قبري:/ هنا واحدٌ من ضحايا الحروب/ التي عافها / ثم قال لقادتها قبل أن يبدأوها:/ الحروبُ إذا دخلت قريةً/ أكلتْ أهلها الطيبين/ ولم تُبْقِ من حجرٍ واقفٍ/ أو شجرْ.. * * * دثّريني / دعيني أعانق في شغفٍ صحوة الأبدية/ أرحل عن وطنٍ بائس الأمس واليوم/ فيه تموت العصافير جوعاً وتسمن فيه الذئاب/ وما كتبته يدي ليس إلاّ صدى شجنٍ حارقٍ/ وبكاءٍ من الكلمات / على بلدٍ كنت أحسبه بلداً/ وعلى أمةٍ كنت أحسبها أمةً/ ظِلُها كان يمتد من ماءِ تطوان/ حتى سماءِ الخليجْ)

مسحة الحزن في الوجه والنص

هذا النص ككل النصوص يعكس الحزن الذي تتلون تعابير حضوره في قصائد المقالح من الألم إلى الفرح إلى الإنسانية، ذلك لأنه شاعر مجبول على الحزن بكل معانيه الجميلة والإنسانية في شخصه وفي نصوصه، وفي سياق الحديث عن مسحة الحزن الإنساني -المتوجة بالبهاء والألفة والابتسامة- التي يطل بهه وجه المقالح على الآخر، يقول الشاعر العراقي العماني عبد الرزاق الربيعي في كتابه: “عبدالعزيز المقالح راهب القصيدة” الصادر عن دار الدوسري المنامة2015م: :رغم ابتسامته الرقيقة الا ان المقربين الى المقالح يعرفون جيدا انه شخصية حزينة كثيرة التأمل وربما يعود هذا الحزن الدفين في أعماقه الى سنوات الطفولة والظلم الاجتماعي الذي عاشه الشعب اليمني أيام حكم الإمام.. ناقلا عن المقالح قوله “صور المعاناة في حياتي بلا حدود، كل يوم من زمن الطفولة سواء في القرية او المدينة يشكل سلسلة من صور الحرمان الفاجع والخوف من المجهول، فالأشجان تبعثها الذكريات في هذه المرحلة بكل ابعادها المفجعة بالنسبة للفرد وبالنسبة لليمن كشعب.. فالحزن قد يداهمني وانا ماش في الطريق ، وقد يتسلل ليلا ، قد يحاصرني وأنا أرى أطفالا يسيرون بالملابس الممزقة ، ويضعون أقدامهم الحافية على الطريق في وقدة الشمس…. الحزن رفيق دائم وصديق حميم، ومهماز لا بد منه لكي نواصل الحياة بقدر من النقاء”.
ويقول الربيعي : “هذا هو عبدالعزيز المقالح الشاعر الكبير والاكاديمي والناقد الذي أخذ من الشخصية اليمنية بساطتها وعمقها التاريخي ومن الشخصية العربية كرمها ورفعتها ومن الشخصية المعاصرة حضارتها ومن شخصية الشاعر شفافيته وحساسيته”.
رغم وضعه الصحي المتمثل في إصابته خلال العامين الماضيين بانزلاق غضروفي في العمود الفقري، إلا إن الأعوام الأخيرة خصوصا (2016-2019م) هي أكثر أعوام المقالح خصوبة بالكتابة والشعر الذي تتعالى فيه بحة الصوت ونبرة الحزن تعبيرا عن واقع الحال الذي تعيشه البلاد اليمنية والعربية، فقد صدر له في العام 2017م صدر ديوانه الجميل “الشمس تتناول القهوة في صنعاء القديمة” عن دار العودة بيروت.. والآن له ديوان جديد تحت الطبع كما أن زخم الشعر والنصوص الحزينة لم يتوقف خلال السنوتين الأخيرة فقد نشر عدة نصوص منها قصيدته “أعلنت اليأس”، التي حركت الوسط الثقافي اليمني والعربي تجاه ما يرمي إليه المقالح من وداع ورثاء للنفس من صوت عالي يدعو الى السلام، في هذا الهجير اليمني والعربي القاسيين:
“أنا هالكٌ حتمًا/ فما الداعي إلى تأجيل/ موتي.
جسدي يشيخُ/ ومثله لغتي وصوتي
ذهبَ الذين أحبهم/ وفقدتُ أسئلتي/ ووقتي
أنا سائرٌ وسط القبورِ/ أفرُّ من صمتي/ لصمتي”.
كما نشر نص آخر أكثر حزنا لكنه معمد بصوفية يتميز بها المقالح عن سائر الشعراء العرب الكبار، وهو نص “صنعاء تحت قصف المجاعة” والتي يقول فيها:
“ترقدُ صنعاء مبعثرة/ تتسول خبزًا لأحفادها/ وحفيداتِها/ أغلق الشرقُ أبوابَهُ/ أغلق الغربُ أبوابَهُ/ يا إله السماوات/ لم يبق يا سيدي مشرعًا/ غير بابك…/ باب السماء/ دعوني لحزني/ وخوفي/ فما عدتُ أذكر مَن كنتُ/ مَن سأكون/ فقد أفقدتني الحروبُ “أناي”/ واسمي/ سلبتني هوايَ وشعري/ وذاكرتي/ تركتني حطامًا بلا حلمٍ/ وبلا ذاكرهْ”.

أخيراً
الشاعر الإنسان عبد العزيز المقالح الذي يتجاوز اليوم عمر الـ 82 عاما، لم يزل اليوم يعمل بكد يومي بمركز البحوث، مشتغلا على أعمال ورؤى في منتهى النضج والإبداع، كواحد من أهما عظماء الإنسانية الذي قدسوا العمل والعطاء واللغة الراقية من طفولتهم حتى واجهوا حقيقة الموت وكما لو أنهم أصدقاء معه.. ثمانية عقود نجحت أن تحني جسده النحيل، لكنها عجزت ان تغير مواقفه الأصيلة تجاه الأمة العربية وقضاياها القومية وعلى رأس تلك القضايا فلسطين، ورفض النزاعات البينية والحدود الجغرافية المصطنعة، رغم تغير الأنظمة السياسية ومواقف الساسة والحكام العرب، تجاه قضاياهم القومية، وركونهم إلى المصالح السلطوية الفانية تحت قرع نعال الغزاة، ليضل المقالح هو القامة الحاضرة بقوة في قلب المعاصرة القومية والمنافح الفكري والثقافي البارع، واثباً كالطود بعطائه وابداعه الواسع ورأيه المستنير لا تهزه عواصف السياسة وإغراءات الساسة وصراع الحاكميات.. لم يقبل مؤخرا أي مبادرة لعلاجه في الخارج لا من صنعاء ولا من عدن ولا من أصدقاءه ومحبيه خارج اليمن وهم كثر، بل أراد أن يظل في صنعاء كأرض للمحيا والممات، مخلصا لعمله الإبداعي المتوج بالحزن والدعوة المستمرة إلى للسلام والوفاق والاتفاق لا إلى الفرقة:
(لك أنْ تشرب قهوتكَ الليليّة/ في أي مكان/ في روما/ أو باريس/ وأن تشربها بالقرفة/ أو بالهال/ وباللَّبن الطازج/ أو بالعسل الجبلي/ لك أن تختار مكانك/ في مقهى مغمور بالضوء الباذخ/ أو مطلي بالعتمة/ لكنك لن تتذوق فنجاناً/ أشهى من فنجان صنعانيٍّ/ يأخذ شكل بخار الغيمة/ وهي تبلل جفن صباحٍ/ يفتح عينية الخضراوين /على جبل تكسو عُرْيَ حجارته أشجارُ البُنّ).

من نص “الشمس تتناول القهوة في صنعاء القديمة” نشر في ديوانه الأخير الذي يحمل نفس عنوان النص..

 

نقلاعن: مجلة العربي الامريكي الثلاثاء/ العدد 67 ابريل 2019م

 

 

Share

التصنيفات: أخبار وتقارير,ثقافــة

الوسوم:

Share