Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

عبد الباري طاهر: فلسطين .. بشائر انتفاضة ثالثة

للانتفاضة الأولى اسم «انتفاضة الحجارة». كانت حجارة الطفل الفلسطيني هي السلاح الاستراتيجي لمواجهة قوة الجيش الإسرائيلي المدجج بأخطر أسلحة الدمار وأكثرها تطوراً وفتكاً. وهو جيش ذو طبيعة عنصرية متوحشة. الجيش المتفوق على الجيوش العربية ينزل إلى الميادين في المدن والقرى الفلسطينية؛ لقمع حجارة الطفل الفلسطيني.
تتحول أرض فلسطين 67 إلى ميدان معركة يومية بين جيش فائق التسليح، كلي القدرة، وأطفال يرجمونه بالحجر، كما فعل جالوت مع داود في القصص الإسرائيلي «التوراة»، وفي «القرآن الكريم».
حجر الطفل الفلسطيني الذي تنبأ به الفنان التشكيلي الفلسطيني ناجي العلي، في غير كاريكاتور، أنجز وحقق ما عجزت عن تحقيقه جيوش ثلاث دول عربية، وكفاح مسلح خاضته منظمات عديدة.
الحجر بيد الطفل الفلسطيني في مواجهة المركافا، وسيارات مصفحة، والآلى العوزي. الجنود الإسرائيلون المطلقو السراح مزودون بتعليمات صارمة: القتل.
تحولت الانتفاضة إلى هم يومي وممارسة حياة أو موت. بدأت الانتفاضة تمتد إلى فلسطين الداخل، وإلى الوطن العربي، حتى المتحالف حكامها مع أمريكا، وانتشرت رياحها الطيبة في مدن أوروبا والمدن الأمريكية الكبيرة.
الجيش الإسرائيلي، وأجهزة القمع، وازدياد القتل والعنف لم تزد الانتفاضة إلا اشتعالاً. عجز القمع السافر، والقتل المتواصل عن إخماد نار الانتفاضة. تحركت الإدارة الأمريكية؛ لجر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية للتفاوض. قيادة التفاوض التي اختارها أبو عمار من الداخل الفلسطيني المنتمي لـ«منظمة التحرير» قطعت شوطاً بعيداً في التفاوض، ووصلت إلى نتائج واعدة في واشنطن. هل يستطيع ترامب – بخطوات كهذه – جعل أمريكا «أولاً»؟
ربما تخوفت قيادة «منظمة التحرير» من انفراد قيادة الداخل بالانتصار، والابتعاد عن القيادة، رغم تكرار تأكيد الدكتور حيدر عبد الشافي والدكتورة حنان عشراوي أنهما ممثلان لـ«منظمة التحرير». أيضاً لا يُستبعد مكائد الموساد والمخابرات المركزية الأمريكية؛ فقد شُكِّلت قيادة إسرائيلية – فلسطينية، وتحولت المفاوضات العلنية في أمريكا إلى «عمل سري!» بين جهاز أمني مُؤسّس للدولة لأكثر من ثلث قرن، وبين «أبو مازن» و«أحمد قريع» من مساعدي «أبو عمار» المبعدين عن فلسطين لعدة عقود، والجاهلين للكثير عن الداخل الفلسطيني؛ وهو ما كشفته نتائج ووقائع ومسار التفاوض؛ حيث أثبت المفاوض الفلسطيني جهله الكثير عن الأرض الفلسطينية، وعدم خبرته القانونية والسياسية، وكان غير مزود بالخبرة والقرارات والوثائق – كما يؤكد المفكر إدوارد سعيد.
كان انطلاق الانتفاضة الأولى 8 ديسمبر من العام 87. والسبب أن شاحنة إسرائيلية دهست عدداً من العمال الفلسطينيين من مخيم جباليا؛ فقتلت أربعة، وجرحت آخرين. الانتفاضة الثالثة تأتي كرد على اعتراف الرئيس الأمريكي ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقرارِه نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، حسب تشريع الكونجرس الذي لم ينفذه الرؤساء السابقون.

القرار الأمريكي يتصادم مع القرارات الدولية للأمم المتحدة، ويمثل اعتداءً سافراً وهدراً للحقوق الوطنية للفلسطينيين والعرب، وإهانة لمقدسات ملايين المسلمين والمسيحيين في العالم.
كشعبوي ومقامر سياسي، لم يدرك ترامب مخاطر الإساءة للمقدسات، والاعتداء على الحقوق، والقفز على القرارات الدولية.
المشترك بين الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى2000م)، وما يجري اليوم في فلسطين، هو الاعتداء على المقدس. فالاعتداء على الأقصى (أولى القبلتين، ومسرى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وثالث الحرمين)، هو المشترك الأعظم.
ففي الثامن والعشرين من سبتمبر عام 2000 قام أرئيل شارون (جنرال الحرب الإسرائيلي) باجتياح الحرم القدسي مدججاً بزهاء ألفين من حراسته، وقام الجنود بالاعتداء على المصلين والمحتجين؛ مما أدى إلى سقوط العشرات من القتلى والجرحى. إجتياح شارون للأقصى أشعل الانتفاضة التي استمرت بضعة أشهر، وامتد أثرها إلى فلسطين الداخل والوطن العربي. أما الاحتجاجات الحالية، فهي «إعلان الغضب» – كتسمية الفلسطينيين، ووكالات الأنباء، ومحللين سياسيين – على قرار ترامب.
نقل السفارة الأمريكية، والاعتراف بالقدس – كعاصمة موحدة لإسرائيل – هو اعتداء على المقدس، وإهانة لمشاعر المسلمين والمسيحيين والمتدينين الصادقين من اليهود. وجميع أمم وشعوب الأرض لا يقبلون خطوة كهذه بها تشتعل الحروب الدينية، وتهان المقدسات، وتُحيا صراعات الحروب الدينية في العصور الوسطى في أوروبا.
هل يستطيع ترامب – بخطوات كهذه – جعل أمريكا «أولاً»، واستعادة مجد القطب الواحد، وقطع الطريق على تعدد الأقطاب، وهل هي محاولة بائسة يائسة تضع أمريكا في مواجهة العالم، وتعزلها عن أهم حلفائها في أوروبا والوطن العربي؟
الأهم أن قرار ترامب الذي تجاهله ثلاثة رؤساء قبله؛ لخطورته على أمريكا، قد أحيا التضامن العربي الإسلامي مع القضية الفلسطينية، وأيقظ مشاعر العرب والمسلمين الموحدة إزاء القدس.
ما يقوم به ترامب، هو ما يسميه هيجل: «مكر التاريخ». فالإجراءات «الشعبوية» المغامرة التي يريدها ترامب في جعل أمريكا (القوة الأوحد في العالم)، تتصادم مع المجتمع الدولي، وإرادة الأمم والشعوب في التحرر والاستقلال، وقد تكون نتائجها عكسية تماماً.

شعب فلسطين يحتج الآن يومياً. وقد تصبح الاحتجاجات السلمية في الضفة وغزة بداية انتفاضة جديدة تستعيد مجد الانتفاضتين السلميتين، وتحقق ما راكمته خبرة الانتفاضتين السابقتين؛ متوجة كفاح الشعب الفلسطيني والعربي لأكثر من ثلثي قرن بالانتصار على الصهيونية العالمية والكيان الإسرائيلي الغاصب، وعنجهية الإدارة الأمريكية. تصاعد وتيرة الاحتجاجات يخلق مزاجاً ثورياً رافضاً؛ ويذكي روح المقاومة الشعبية
القرار الأمريكي، ولأول مرة، يوحد أعضاء مجلس الأمن ضده، وتصطف دول العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية كبيرة رافضة له. تبدأ المظاهرات في الباكستان وماليزيا وأندنوسيا والعديد من بلدان العالم. تصاعد وتيرة الاحتجاجات يخلق مزاجاً ثورياً رافضاً؛ ويذكي روح المقاومة الشعبية المتجذرة منذ ثلاثينات القرن الماضي.
رمزية الانتفاضات الفلسطينية تستعيد أو تجدد ذكرى «تعذيب السيد المسيح» في هذه الأرض، وخلاصه كفادٍ للبشرية، ودعواه الأزلية للسلام والتي لا يزال مئات الملايين من أتباعه في شتى بقاع الأرض يدعون إليها. «المجد لله في الأعالي! وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة» (إنجيل لوقا).
الجانب الإيجابي التحاق القيادة الفلسطينية بالانتفاضة، والخلاص من أوهام «الكفاح المسلح»، وعدم التسابق بين فتح وحماس – كما حصل في انتفاضة الأقصى – على الانخراط في الكفاح المسلح.
الكفاح المسلح حق من حقوق الأمم والشعوب ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وهو حق تكفله الشرائع والملل والنحل السماوية والأرضية، ولكن ممارسة هذا الحق يخضع لاعتبارات عديدة تتعلق بـ: الزمان، والمكان، وطبيعة القيادة والأرض، وتوازن القوى، والجدوى، والعائد، واعتبارات أخرى كاثرة. ويقيناً فإن جر انتفاضة الأقصى للعنف كان إرادة إسرائيلية؛ لقدرتها على حسمها.
تجربة أكثر من نصف قرن على الحروب العربية ــ الإسرائيلية، وما يقارب ثلثي القرن في الكفاح الوطني الفلسطيني لحركة التحرر الوطني الفلسطيني – لم تذهب سدى. فقد أكدت الحق الفلسطيني، وأبقت جذوة القضية مشتعلة مغروسة في قلوب وضمائر أبناء شعب فلسطين.
إنخراط الفلسطينيين قيادةً وشعباً في الضفة وغزة في الاحتجاجات السلمية، وصولاً إلى الانتفاضة الشعبية السلمية – هي الإبداع الشعبي الفلسطيني – كتعبير عميق عن روح القرن الواحد والعشرين، والأسلوب الكفاحي؛ لدحر الكيان الصهيوني الاستيطاني، والتوجهات الاستعمارية الأمريكية القائمة على الابتزاز والعنف.
رياح الانتفاضة الأولى هبت على تونس، وأينعت ثمارها في المنطقة العربية من الماء إلى الماء، ولا تزال مشتعلة في غير منطقة. اشتعالها في فلسطين ــ مجدداً ــ إيذانٌ أن الربيع العربي لم يهمد، وأن الأرض العربية موعودة بـ«ربيع عربي» يطيح بالفساد والاستبداد، وبنظام الفصل العنصري والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

Share

التصنيفات: أقــلام

Share